السينما فن واعد، كذلك بدت في مطلع القرن السابق، وهي واعدة في بداية القرن 21. السينما فن شامل يفتح أفقنا على العالم. الفن تعبير عن حاجات المرحلة، يحاول الفن توعية الإنسان بالسمو الكامن فيه، والذي يجهله. يوعيه ويرفعه عن باقي مكونات الطبيعة.
خلال العقد الأول من القرن والواحد والعشرين، تضاعف إنتاج الأفلام السينمائية الطويلة والقصيرة، مما دفع الكثير من الصحافيين والكتاب إلى التعامل نقديا أو خبريا مع هذا المعطى، وغالبا ما يغلب الطابع الإخباري لا التحليلي على الكتابات السينمائية… لهذا، توجد حاجة ماسة إلى كتابة نقدية سينمائية، ذات مفاهيم ومحتويات وطرائق ترافق التطور السينمائي الذي تعرفه جل البلدان العربية، حيث اكتشفت الحكومات – بفضل العولمة – سلطة الصورة وخطرها. وهو ما يفسر تزايد إنتاج الأفلام والقنوات الفضائية والمهرجانات السينمائية… وهذا اكتشاف متأخر، بينما ذكرت جريدة لوموند الفرنسية في 7-11-2009 أن لينين شرح في 1917 أهمية الكاميرا إلى جانب المنجل والمطرقة… وأكد أنه من ضمن الفنون، تعتبر السينما بالنسبة إليه، هي الفن الأهم لتعبئة الجماهير. واشترط أن تكون إبداعا حقيقيا، لتكون فعالة دعائيا… وقد كلّف لينين زوجته لتطبق نظريته السياسية فنيا فتم إنتاج 800 فيلم صامت بين 1918 و1929، وقد كان سيرجي آيزنشتاين من أبرز وجوه هذه المرحلة. أما المهاتما غاندي فقد شخص قوة أمريكا في المخابرات (CIA) وهوليود، وهذا الوعي النافذ لدى الزعيم الهندي هو الذي أثمر بوليوود في الهند.
كمساهمة متواضعة في رفع مستوى الأسئلة المطروحة وتدقيق الأجوبة، نعرض هنا لكتاب مرجعي في المجال، وهو “النقد السينمائي” La critique du cinéma الذي ألفه جون ميشيل فردون FRODON رئيس تحرير دفاتر السينما CAHIERS DU CINEMA.
بداية طرح رئيس التحرر الممنهج ثلاثة أسئلة:
1- ما العلاقة بين الحس النقدي ونقد الفن؟
2- كيف يشتغل النقاد السينمائيون؟
3- لم يصلح النقد السينمائي؟
النقد مسافة
عرف فردون النقد في الثقافة الغربية، وأوضح أن مصطلح critique يعود إلى krisis المشتق من الأزمة ويعني فعل krinein بناء مسافة، أي التراجع إلى الخلف لخلق مسافة، وتمرين التراجع هذا للفحص والتأمل والمراجعة، عمل حاسم لتحويل الكائن إلى إنسان. واضح إذن أن نقد الفن، واحد من تجليات ملكة الحس النقدي. نقد يستمد مع معرفة منطق الفن ومن الذوق، وكل حكم ذوق هو تعبير عن علاقة، عن موقف ويتم التعبير عنه بالكلمة والإشارة والصمت والانسحاب…
دون حس نقدي، دون استقلالية في الموقف، لا مجال لممارسة النقد، والإبداع أيضا فالذي يخاف الرقابة الذاتية أو الاجتماعية لا يبدع، العبيد لا يبدعون.
(يعود مصطلح النقد في الثقافة العربية إلى الصيرفي، الذي يميز النقود الأصلية من المزيفة، ويقول المثل إن العملة المزيفة تطرد العملة الحقيقية من السوق، من حسن الحظ أن سوق الفن يطرد الفنان المزيف لأن الجمهور هو الصيرفي في السينما. ومن أفضل تعاريف النقد التي قرأتها قول الباحث والمُناظر طه عبد الرحمان “النقد هو مطالبة النص بالتدليل على وسائله ومضامينه”. في تصوري، يصلح القول أن النقد السينمائي هو مطالبة الفيلم بالتدليل على وسائله الفنية والتقنية: السرد الفيلمي، تناسق الأحداث مع فضاءات التصوير، أداء الممثلين، عمق الحوار، زوايا الكادرات، دلالات الإضاءة، دور المؤثرات الصوتية في تكثيف اللقطات….)
للإشارة، ولد نقد الفن في القرن الثامن عشر، وكان ديدرو يعلق على الأعمال الفنية، بينما وضع كانط أسس النقد في كتابه “نقد ملكة الحكم” 1790 يميز بين حكم الذوق وحكم المصلحة، بين النافع والجميل، ويوضح كانط، أن أي حكم على الجميل، وهو مرتهن للمنفعة أو للموقف المسبق، يجعل ذلك الحكم مشكوكا فيه.
لا وجود لنقد دون عمل فني، دون فيلم، والنقد هو تفكّر في السينما، هو تعبير خاص ناتج عن تأثير العمل الفني على حس نقدي، وبذلك التأثير، يكون الناقد قد تلقى دعوة ليُخضع موهبته للاختبار، لأن العمل الفني هو تحدي للنقد… وتكمن صعوبة نقد الفن السابع، في أنه يستخدم الفنون الستة السابقة كوسائل تعبيرية لحسابه الخاص لتعميق الإحساس… لمخاطبة متخيلنا عن حواسنا.
ما عمل الناقد؟
النقد السينمائي ليس مقالا صحفيا، ولا إشهارا للفيلم ولا نصائح للمتفرج ولا بحثا جامعيا، النقد ليس خبرا صحافيا، والخبر السينمائي ليس نقدا، النقد السينمائي ليس استطلاع رأي ولا عرضا لأرقام البوكس أوفيس
الشرط الأساسي لممارسة النقد السينمائي هو التوفر على حساسية فنية وموهبة وملكة كتابة ملائمة، مع معرفة واسعة في مختلف الفنون ومشاهدة مكثفة للأفلام الجيدة والسيئة… الناقد السينمائي حسب فرودون فنان وعالم… الناقد السينمائي هو الذي يذهب ليشاهد الفيلم ثم يجلس ليضع وجها لوجه: العمل الفني وذاتيته التي ستلْهم كتابته…
الناقد مشاهد مختلف، من طينة خاصة، له معرفة وانتباه خاص وله القدرة على تلقي العمل الفني… بعد توفر هذه الشروط ينتقل للعمل، وتطرح أسئلة المقال النقدي انطلاقا من العمل الفني الذي نتلقاه….
ما هي دوافع ممارسة النقد السينمائي؟
– الرغبة في التعبير انطلاقا من مشاهدة فيلم سينمائي.
– متابعة التعبير عن أحداث الفيلم وتمديدها بالقول.
– تقاسم رد الفعل مع أفراد آخرين.
– التعليق على الفيلم كعمل فني.
– طرح أسئلة معينة ومناقشتها انطلاقا من الفيلم.
الناقد السينمائي هو الذي يشاهد الأفلام ويكتب عنها، وليس من يكتب عن أصحابها، أي عن الأشخاص. هو الذي يكتب عن الصور التي تتابع على الشاشة.
السينما والصحافة
النقد السينمائي كتابة صحافية ولكن من نوع خاص، لا تشرعن أي قول في السينما. يقارن فرودون بين الصحفي والناقد:
يتعامل الناقد مع الفيلم، مع العمل الفني، ص 18 بينما يتعامل الصحفي مع المخرج والمنتج والموزع بحثا عن الخبر ص19. الناقد ليس هو الذي يكرر عناصر الملف الصحفي للفيلم، ملف هو سلاح ذو حدين، يوفر معلومات ويتهدد النقد بأن يصبح دعاية تحت ضغط المنتجين والمخرجين والموزعين، وحين يقع الناقد في الدعاية يكون قد خسر استقلاليته.
عادة يهمش النقد السينمائي في الصفحة الثقافية للجرائد، وقد تخصص أو لا تخصص مساحة للنقد السينمائي تبعا لتقدير رئيس التحرير لأهمية النقد، خاصة أن النقد السينمائي لا يقع في مجال لعبة الإغراء لزيادة التوزيع. ودائما في باب السينما والإعلام يضيف الكاتب أن القنوات التلفزية تقدم الأفلام بشكل دعائي لا نقدي… ويستخلص أنه إذا تمكن المنتجون – وأصحاب الفيلم عامة- من السيطرة على النقاد فإن النقد يغدو تملقا فيفقد تأثيره على الجمهور.
فوائد النقد
النقد السينمائي يستفز ويجذب irrite et fascine، وهو يهدف إلى بناء الفكر السينمائي عبر:
1. في عصر الصورة، من المفيد أن تساهم العقول المسلحة بالحس النقدي، في حسن استخدام السمعي البصري.
2. يبرز القيم التحتية للعمل السينمائي ليطعّم صورته ويجددها فيساهم في توعية المجتمع من أجل عالم أفضل.
3. وصف الأفلام
4. تمكين كل مشاهد من إضاءة أفكاره الخاصة عن الفيلم.
5. تقويم الأفلام وفق معياري الذوق والمعنى.
6. الوساطة بين المتفرج والعمل الفني وتسهيل تلقي الفيلم.
7. تقاسم مشاعر التلقي.
8. اكتشاف الجديد في مسار تطور السينما.
9. مرافقة تغيرات القيم الجمالية لإبرازها وتفسيرها.
10. شرعنة ما يبدو فنيا، صادما ومختلفا، ليغدو مقبولا مقدّرا.
11. النقد أساسي في حضارة الصورة التي نعيش فيها.
12. يثري تلقي الآخرين لأن العمل الفني موضوع فيه ثقوب، فراغات، فضاءات مفتوحة يمكن لكل من يشاهد الفيلم أن يملأها على طريقته… النقد السينمائي يسهل ذلك.
13. التنبيه من الإثارة السلبية التي تصيب المتفرجين الذين يفتقدون الحس النقدي.
14. تظهر فوائد النقد السينمائي على المدى الطويل بالنسبة للأفلام التي يرحب بها النقاد ويطرونها
15. يبرز جماليات السينما عندما يقف على الإضافة التي يقدمها كل فيلم.
16. يحرض على التفكير انطلاقا من العمل السينمائي، لفهم الذات والعالم المحيط بنا.
17. يفاجئ ويزعج ويدفع للتساؤل.
18. يبرز النقد ردود أفعال لا يتضمنها العمل الفني نفسه مثل الأحاسيس والانفعالات المختلفة الناتجة عن المتعة والفهم.
19. يفتح النقد متخيل العمل الفني ولا يقمعه بل يمدد التفكّر فيه.
20. يبني النقد قيمة الأفلام ورأسمالها الرمزي، حتى إن لم تحقق نجاحا جماهيريا (تعتبر أفلام أورسن ويلز “المحاكمة” و”المواطن كين” نموذجا لهذا النجاح الخالد على مستوى النقد السينمائي).
21. يدعم المخرج الشاب عبر شرعنة عمله، حتى لو لم ينجح جماهيريا، مما يشجع المنتجين السينمائيين على دعمه أيضا.
22. يساعد النقد السينمائي المستقل والذي يدعم التعدد الثقافي على إبداع الأفلام وتطويرها.
ختاما، هذا تمرين في التفاهم والحب، يمثل الموقف النقدي من فيلم معين، إشارة لمستقبل علاقة عاشقين يضربان أول موعد لهما في السينما، إن اتفقا في موقفهما من الفيلم وفي تفسير أحداثه فالمستقبل سيكون زاهرا.
بتصرف: محمد بنعزيز، من مجلة ”الفوانيس السينمائية”
سلِس و مفيد جداً ،، شكراً فلقد استفدت منه ..
مجهودات مشكورة
مقاله ممتعه جداً، استفدت منها كثراً.. كل الشكر
شكرا
جيد ولكني ارغب في المزيد من النقد العميق
جميله جدا