مجالات التحليل الفيلمي
من أجل تعريف مجالات واختصاصات التحليل الفيلمي،يلزمنا التمييز بين حقول اشتغال هذا النوع من التحليل وأهدافه، من هنا نؤكد أن ما نستهدفه،هو عمليات ثلاث تخدم هذا المنطق هي:
ـ أولا هناك ما يمكن وصفه بالطابع الإخباري وأحيانا الترويجي للفيلم وفق ما تراه العين وتسمعه الأذن،ويتم ذلك غالبا من خلال تقديم مختصر عن أحداث الفيلم .
ـ ثانيا سعينا إلى تفكيك بعض مكونات الفيلم الفنية والتقنية من الداخل،ونكون بصدد التحليل الفيلمي أي بشكل مستقل عن أية نظرية معرفية خارج إطار نظرية التحليل الفيلمي.ويهدف هذا المجهود إلى فهم بعض القضايا المطروحة وتقريبها من المشاهد،مع شرح ما يعرف بمرتكزات اللغة السينمائية الخاصة بهذا الفيلم دون غيره،أو المشتركة مع أفلام تدخل في إطار نفس النوع.
ارتباطا بالتأويل الفيلمي،نقول أن هناك من ينظر إلى هذه المهمة بشكل مستقل،كما أن هناك من يربطها بالتحليل ويجعلها مرحلة نهائية.
ثالثا،إذا كان بالإمكان الحديث عن تميز الخطابات بتميز حقول اشتغالها.قد نتحدث عن الخطاب الديني،والخطاب السياسي،كما أن ما ينطبق على السينما يستدع خطابا متميزا يشتغل على متنها وهو الخطاب الفيلمي ،وهو خطاب، وإن كان يتأسس من داخل حقل متميز هو السينما ،فإنه يستعير من أدوات وآليات ومناهج خطابات أخرى وحقول بعيدة نوعا ما عن السينما من قبيل السوسيولوجيا ،والتحليل النفسي،والمجال الحقوقي الخ …
إن مناهج وطرق تحليل الفيلم تتراوح بين ما هو نصي، سردي يحيل على أصول لسانية كما هو الحال عند كريماس وبروب، ويدخل هذا في إطار ما يعرف بالسرديات، وبين ما هو إيقوني،وموضوعاتي،و ما هو بنيوي حيث يعتبر الفيلم كوحدة متكاملة البناء يتعاضد في رصد أجزائه من سيناريو وقصة، وحوار.
لكل من هذه العناصر المكونة للفيلم علاقة بالتأثير النفسي والفني ويدخل ضمن شروط تلقي الفيلم كجنس تعبيري،لهذا نرى أن كل تناول نقدي أو تحليلي للفيلم لا بد أن يتراوح بين نقد سينمائي عاشق،وآخر ميداني يطور من خلالها الناقد أدواته عبر تراكم كمي ومعرفي بالتجارب السينمائية.كما يمكن الإشارة إلى نوع آخر من النقد،وهو ما يوصف بالنقد الموسمي المولع بظاهرة النجوم، أو بالسبق الإعلاني والصحفي.
مهام الناقد السينمائي
يهمنا أن نميز بين محلل الفيلم وناقده، ونستعمل ناقد الفيلم عوض الناقد السينمائي لكون المفهوم الأخير أكثر تعميما.وإذا كانت العملية النقدية تنطلق من ثلاثة أسس هي: الإخبار والتقييم،ثم الترويج للعمل،فإن العملية التحليلية للعمل الفيلمي تروم إنتاج مجموعة من المعارف حول بعض المكونات الفيلمية انطلاقا من منطلق تأويلي يصب في ما يعرف بنظرية السينما. وهكذا نجد ناقد الفيلم يسعى إلى تقديم مجموعة من المعلومات عن الفيلم بدءا بنوعيته وأسلوب مخرجه،عارضا آرائه السلبية والإيجابية، وكذا كيفية استقبال الجمهور لهذا الفيلم أو ذاك.أما المحلل فإنه يصبو إلى إنتاج معارف في مجملها تجمع بين مرتكزات نظرية وبين أخرى تطبيقية تسعى إلى تفكيك عناصر الفيلم من سيناريو،ومونتاج،وإنارة وديكور.كما يسعى في نفس الوقت إلى تقريب المشاهد المتذوق والمتعلم من مكونات الفيلم بطرق ديداكتيكية وتربوية وهو ما يجعله ينتج أفكارا وتأملات جمالية.
لا يمكن الجزم أن هناك طريقة واحدة ووحيدة وعالمية للتحليل والإخراج الفيلمي،لأن هناك طرقا متباينة ومتداخلة في غالبية الأحيان، فيها مثلا من يركز على الجانب السردي/ النصي ويدعى أصحاب هذه الطريقة بالمخرجين الأدباء،كما هناك من يركز على الجانب البصري/ المشهدي ويدعى أصحاب هذه الطريقة بمخرجي الصورة ،وهكذا يبقى على محلل الفيلم أن يختار بين مجموعة من الأساليب التي تتناول الظاهرة السينمائية ليكون أسلوبه الخاص في مقاربة مشاهد أو متتاليات فيلمية،لكن بإمكانه الجمع بين أكثر من نظرية لاستجلاء مضامين وملامح مختلفة. “وتختلف درجة الانفعال مع الصورة طبعا من متلق باحث عن ذاته ورغباته في ما يشاهده من أفلام إلى متلق أقل انفعال،متلق عاشق للسينما يملك قدرا معينا من الثقافة السينمائية،لكنه لا يملك الأدوات القادرة على الكشف والتحليل وإدراك الأبعاد الجمالية والفكرية.وغالبا ما يغيب الفيلم المشاهد وتسقط الذات المشاهدة اهتماماتها الفكرية والثقافية المرتبطة بدائرة اختصاصها”
إن الفيلم،كمنتوج متعدد الأصوات والخلفيات، يساهم بطبيعته في إنتاج خطابات نقدية موازية من مواقع جمالية وأيديولوجية متباينة، قد تكمل بعضها البعض كما قد تتعارض فيما بينها تماما.وهذا ما يجعل بعض القراءات النقدية زائفة ومنحرفة أو ساقطة في النظرة الضيقة الناجمة عن حسابات شخصية تنطلق من نية الحط من قيمة الفيلم بعيدا عن كل تحليل موضوعي رصين.ونعلم جيدا الأهمية التي باتت تحتلها أدوات التسويق والدعاية في الترويج لأفلام ما قد تجعلها تكتسي أهمية سواء عند النقاد أو عموم المتتبعين،بالرغم من طابعها المتواضع أو مضمونها الأيديولوجي الصارخ.
من هنا وجب على النقد أن يجدد أدواته ومفاهيمه ليقارب المتن الفيلمي من مواقع ومرجعيات متباينة، وهذا من شأنه إغناء التجارب المؤسسة، لكن ذلك يظل رهينا بمدى تطوير الفيلم لأدواته وتصوراته وآفاقه، إذ لا يمكن لأفلام تتحدث بنفس الأسلوب، وتخلو من التجديد النوعي والتجريبي في اشتغالها الفني والتقني أن تحفز المحلل والناقد على الإبداع والتجريب،لأن الناقد سيجد نفسه يتحدث لجمهوره عن أشياء لا وجود لها.
مكونات الفيلم
إن دراسة الفيلم تتطلب عموما المرور بمرحلة تحليل الحكي الفيلمي الخاص بكل مخرج على حدة، ولذلك نولي أهمية قصوى للبنية الدرامية وتأتيراثها،أي كيف يعمل الفيلم على طرح الموضوع من خلال الحدث المركزي،وكيف توضع العراقيل في وجه البطل قصد الوصول لمبتغاه،كما نقف عند الطريقة التي سيتم بها إنهاء الصراع بين القوى المتصارعة،ومن العناصر المعنية هنا نجد:
الفضاء:
نقصد به أماكن الأحداث وكيفية عرضها من خلال التأطير، لذا نميز بين الفضاء الطبيعي وفضاء الأستوديو،كما نميز بين المكان الداخلي والخارجي عند النهار أو في الليل.
الزمن: نقف هنا عند المدد المحددة للقطات وللمشاهد،كما نحاول فهم إيقاع وسرعة الحركات وترتيب المتتاليات.بعدها نحدد نوعية البناء الكرونولوجي للأحداث من خلال تسلسلها المنطقي أو من خلال الحذف أو الاستباق.
الشخصيات: هنا نحاول فك المظهر الخارجي للممثلين من خلال ملابسهم وملامحهم الجسدية وكذا نبرات صوتهم، كما نولي أهمية لطريقة أدائهم لأدوارهم، وكيف يتمكنون من نسج علاقات مع بعضهم البعض ويتبادلون التأثير والتأثر.
وجهات النظر:
تعني الأهمية التي يوليها المخرج لتمرير خطابه سواء من خلال اختيار لقطات التصوير وسلمها، أو من خلال التدخل المباشر للسارد المعلق على الحدث والعالم بخفاياه،وهو ما يعرف بالسارد الحاضر.وندرج في هذه المسألة قضية التبئير بأنواعها الثلاث وهي :التبئير بدرجة صفر.والتبئير الداخلي ثم التبئير الخارجي.
الحوار:
نقصد به كل أشكال التعبير الكتابي من خلال ما هو منطوق أو مكتوب كملصقات وشعارات، أو عناوين.
المتتاليات المحورية:
يتشكل الفيلم من مجموعة من اللقطات التي تكون المشهد،والمشاهد ذاتها تتكون من متتاليات،والمتتاليات هي البنى الكبرى للفيلم. غير أن دور المتتاليات يختلف حسب أهميتها داخل بناء السيناريو، لذا نركز في هذه المرحلة على الجينيريك الافتتاحي والذي له دور محوري في بسط عالم الفيلم ، ثم على متتاليات العرض والختم.ونحاول أيضا رصد لحظات ظهور الشخصيات الرئيسية على الشاشة.
سياقات الصورة الفيلمية
لا يمكننا الحديث عن الصورة الفيلمية المتحركة طبعا وليس الثابتة ونعني هنا تحديدا الصورة الفيلمية وليس الصورة الفوتوغرافية أو الرسوم المتحركة من دون اعتبار ثلاثة سياقات تهم المبنى والمعنى على حد سواء وهي:السياق والمعنى ثم الشكل.
1 ـ بخصوص السياق نحاول التعرف من خلال الحقل السينمائي على وضعية الشريط في هذا المجال، كأن نقول هذا الفيلم من سينما المؤلف،أو أنه فيلم تجاري أو ينتمي لأفلام المهرجانات.
ـ نقصد بالحقل الثقافي الأهمية التي يحتلها الفيلم أو الشريط بالنظر إلى وضعيته الثقافية وأهميتها التاريخية. فشريط وثائقي مثلا عن حركة ماي 68 ليست له نفس المعاني عن شريط ينتمي لحقبة التسعينيات.
ـ الحقل الاجتماعي والتاريخي يحددان لنا بعض المعالم العامة والشروط التاريخية والسياسية التي ساهمت في صياغة خطاب الفيلم وظروف إنتاجه.
2 ـ بخصوص المعنى نأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
ـ المضمون السردي الذي يتعلق أساسا بما تحمله المتتالية وتحكيه، ثم درجة أهميتها بالنسبة للشريط ككل،وكأنها تمثل فقرة داخل نص.
– المضمون الدلالي يتمحور من جهة حول ما يشاهد من ديكور،وملابس،وإكسسوارات،ومن جهة أخرى حول ما يسمع من خلال المنطوق.
ـ المضمون الإيحائي الذي يستقي معناه مما يستنتج من خلال الخطاب كوضعية الممثل وسلطته بالنسبة لباق الممثلين.
ـ المضمون الرمزي يتجلى من خلال كيفية التعرف على بعض الرموز الثقافية والتاريخية الصومعة مثلا كمرجع ديني وعمراني والتمييز فيما بينها.
3 ـ أما بخصوص الشكل، فقد جرت العادة أن نأخذ بعين الاعتبار نقاطا أساسية منها مثلا:
ـ التقطيع المشهدي ونعني به تحديد المشاهد وترتيبها مع النظر إلى سلم اللقطات وكيفية الربط بين الأولى وبين والثانية.وينصب الاهتمام في هذه المرحلة على البنية الشكلية للقطات ثم عددها.
ـ تركيب الصورة وكذا وضعها داخل الكادر والذي يهتم أساسا بتنظيم العناصر المرئية داخل إطار الشاشة،أي هل ستكون في المركز أم في الهوامش،أو خارج إطار الصورة .
ـ موضع الكاميرا وزاوية النظر يهمان مستوى التقاط اللقطة أي على مستوى النظر حسب قامة الشخص.ثم هل سيتم ذلك من زاوية موضوعية ومحايدة أم من زاوية ذاتية؟
ـ حركات كل من الممثل والكاميرا داخل الفضاء،ونقصد بها مدى ثبات الكاميرا أم متابعتها للموضوع المستهدف،ثم مدى الأهمية والمدة الزمنية التي سيحظى بها كل من الديكور والفضاء خلال التصوير،من دون إغفال الاتجاهات التي سيتخذها الممثل بما في ذلك الأشياء المتحركة.
ـ رمزية الألوان ونوعية الإنارة وتلعبان نصيبهما الهام في خلق أجواء اللقطات..وتسترعي هاته القضايا اهتماما خاصا عندما نريد الوقوف مثلا على مصادر الإنارة ،أي هل هي بارزة أم خفية. ثم هل هي مركزة أم موزعة على أكثر من مكان لخلق تضاد بين الظل والضوء بغية تحقيق مشاعر وأحاسيس معينة.
ـ التوقيت والإيقاع ونقصد به المدد الزمنية التي ستستغرقها اللقطات وكذا الطرق التي سيعالج بها المخرج منظوره للزمن سواء من خلال أنواع الحذف،أو الفلاش باك .كما نقف عند تناوب اللقطات بين القصيرة وبين الطويلة،أو التي تنتمي لنفس المدد،ثم التناوب بين المشاهد الداخلية وبين الخارجية التي يكون الهدف منها أحيانا خلق نوع من البطء في السرد أو السرعة.
ـ الصوت ،حيث ننتبه لترتيبه وتركيبته داخل الشريط الصوتى، ومدى حضور عناصره المكونة من مؤثرات صوتية وموسيقى ثم من حوار.كما نقف عند وضعية الصوت وخلفيته.وهنا نتساءل عن مصدره، أي هل يأتي الصوت من خلال الصورة، أم هو مضاف ومسجل كصوت الراوي المعلق على الحدث من دون ظهوره على الشاشة.ومعلوم أن السينما التي أصبحت تسمى اليوم بالناطقة عوض الصامتة في الماضي لم يحض فيها جانب الصوت بالأهمية التي يستحق سواء من حيث وضعيات الملفوظ بوتيرته ونغمته وطرق آداءه ،أو من حيث التنظير لدلالات الشريط الصوتي ضمن مجموع اللقطات والمشاهد الفيلمية.
يمكن القول أن التحليل الفيلمي يجب أن تتوفر فيه مجموعة من المواصفات من أهمها:الشمولية، الانسجام ثم الإنتاجية.
بخصوص الخاصية الأولى،والتي لا تعني أن التحليل الفيلمي يجب أن يقول كل شيء” إن هم المحلل يبقى بالأساس هو البحث عن الدقة من حيث جرد العناصر المضمنة لمحور بحثه، والتي ليست مجبرة على الوقوف عند كل مشهد على حدة”
أما بالنسبة للانسجام، فنعني أن التحليل الفيلمي في عمقه تمرين منهجي،فهو إما بنيوي أو سردي، أو سوسيواجتماعي، أو سميولوجي، أو شكلاني، أو تفكيكي إلخ …المهم في نهاية المطاف هو الخروج بتصور يعبر عن عناصر تنسجم فيما بينها ومنطقية.
الإنتاجية كخاصية ثالثة تتحدد من خلال تمكين المشاهد من إنتاج مجموعة من المعارف والمفاهيم بعد عملية المشاهدة.وهي من جهة إما تعمل على توليد معان تساهم في إغناء الحقل الدلالي للفيلم أو تشكل،من جهة أخرى قراءة ميتانصية مصاحبة وشارحة للدلالات الفيلمية كإشارات مرئية ومسموعة.
لي باك ..
My recent post Wag the Dog–1997 فلم يتكرر حقيقةً في واقع الانتخابات الامريكية اليوم