لا اكتب عادة في السينما العربية، ببساطة لأنني لست أبدا من متابعيها. لكن بصفتها قضية العرب وقضية المسلمين الأولى في عصرنا الحاضر، نظرا لقيمتها التي لا ينازعها شيء في الحضارة العربية، وفي التاريخ الإسلامي؛ ينبغي أن تكون للقضية الفلسطينية منزلة خاصة في السينما العربية، خاصة في عصرنا الذي يلعب فيه الإعلام الترفيهي –والسينما جزء أساسي منه- دورا هاما جدا في تحديد كثير من تفاصيل الواقع الحاضر والمستقبل.
فما هو نصيب القضية الفلسطينية في السينما العربية؟ لكي نجيب عن هذا التساؤل، دعونا نستعرض تاريخ القضية الفلسطينية في السينما المصرية، وفي السينما المغربية، نظرا لأن السينما في هاتين الدولتين هي ربما السينما الأعرق وصاحبة الكوادر الأكثر خبرة وتمرسا ودراية وإنتاجا.
يجب أن نقرأ المقالين بنظرة نقدية منتبهين لأن كاتبي المقالين ليسا غير منحازين بالضرورة، وغير منصفين بالضرورة، وقد يكونا قد كتبا ما كتباه منطلقين من افكار ايديولوجية سياسية، بحيث يهدف مقال كم منهما لترويج وترسيخ هذه الافكار او هذا الفكر، الذي ربما يكون في النهاية مناهضا، أو على الأقل، غير مناصر للقضية الفلسطينية.
لجعل القراءة أسهل، قمت بتظليل فقرات وقطع نصية باللون الرمادي هي الفقرات الأهم والملخصة لفكرة كل مقال.
أولا: السينما المصرية والقضية الفلسطينية
ثانيا: السينما المغربية والقضية الفلسطينية
السينما المصرية والقضية الفلسطينية
الكاتبة المصرية سحر منصور – مجلة رؤية
في الوقت الذي يعتبر نقل الواقع، كما هو، خطيئة في كل الفنون، فإن الفن السابع يُستثنى من هذه الإدانة، بل تعتبر هذه هي الوظيفة الأساسية للفن السابع، دون غيره من الفنون، مع ذلك السحر لا يتعارض مع الواقع في السينما، دوناً عن بقية الفنون (الرسم، الموسيقى، والأدب)، التي تعبِّر عن الواقع، بعدد من الإشارات أو الرموز، فيما تبقى السينما هي الفن الوحيد الذي يقدم الواقع بالواقع نفسه.
إلى ذلك، لابد من توافر شروط وموجبات لذلك المنتج الفني الثقافي (السينما) فهو سلاح ذو حدين، وإذا لم يتم التعامل معه، وتوظيفه بالشكل الذي يخدم قضايا المجتمع، فإنه يضر، ولا ينفع.
النشأة:
السينما المصرية هي الأعرق والأكثر إنتاجاً من بين هذا النوع الإنتاجي في كل الأقطار العربية، وللقضية الفلسطينية أسئلة عدة مثارة، حول أساليب وأبعاد تناولها داخل السينما المصرية. فربما لم يكن تناول قضية الكفاح الوطني الفلسطيني، سينمائياً، من أولويات صانعي السينما المصرية، عند نشأة هذه السينما أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات في القرن العشرين، فيما يعود تواضع تناول قضية فلسطين في السينما المصرية إلى ظروف هذه السينما، ليس باعتبار السينما فناً للسرد والمعالجة فحسب، بل أيضاً كصناعة ثقيلة، حميمة الارتباط بمستوى التطور الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، والثقافي للقطر المعني، ناهيك عن مهارات العاملين في صناعة هذه السينما.
قبل ثورة يوليو:
ربما كانت القضية الفلسطينية أخطر القضايا السياسية التي عاشتها الأمة العربية، في تاريخها المعاصر، ولا تزال. ومعالجة هذه القضية، سينمائياً، تبقى خطوة أبعد من مجرد الدعاية، والخطابة الهشة، والفجة أحياناً، فهي تحتاج إلى رؤى ثاقبة للموقع المحوري والمصيري لهذه القضية في حياة الأمة العربية، فهذه القضية تقف وراء الكثير من التغيرات الدراماتيكية في الوطن العربي.
منذ ظهور فن السينما داخل مصر (1927)، لم تصدر معظم الأفلام التي تعرضت للقضية الفلسطينية عن خطة واضحة، وبالتالي، لم ترم إلى هدفٍ محدد، فتناولت غالبية الأفلام الصراع المصري ـ الإسرائيلي، وأرجع البعض تهميش تناول القضية الفلسطينية، خاصة في فترة الخمسينيات، إلى:
أولاً: وقوع معظم الدول العربية تحت وطأة الاستعمار، بما أعجزها عن تناول قضاياها الملِحّة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وفي مصر كان لسيطرة البرجوازية والقصر الملكي إلى جانب الاحتلال، الأثر السلبي على القضية الفلسطينية، حيث لم يكن في وسع مجتمع تحكمه العلاقات الرأسمالية ـ الإقطاعية، وتسيطر عليه الملكية، المتحكمة في السينما، في ذاك الوقت، أن تتناول قضية الشعب الفلسطيني على النحو المرجو.(1)
ثانياً: لم يحتل الفيلم السياسي موقعاً على الخارطة السينمائية المصرية، ولا نقصد بالفيلم السياسي، الفيلم الذي يناقش، أو ينتقد موقفاً، أو أداءً، بل ذلك الفيلم النابع من مبدأ "كيف توجد استراتيجية لحياتك، وبناءً متماسكاً؟ وكيف تناقش هذا البناء؟". (2)
يناقش الفيلم السياسي، في الأساس، قضية سياسية، ومن خلال هذه المناقشة ينتج وعياً لدى متلقي الفيلم، فيما يستحدث الموقف الذي يخلق استراتيجية، للتعامل مع الواقع.
موقع القضية:
لعل من نافل القول بأن القضية الفلسطينية تشكل جزءاً من مستقبل وواقع مصر، ومعالجة القضية الفلسطينية، سينمائياً، هي من فرضيات البقاء والاستمرار العربيين، في مواجهة الكيان الصهيوني.
لقد اتسمت أفلام الخمسينيات القرن العشرين، بالقطرية المفرطة، ولم تكن القضية الفلسطينية ذات صدى ملموس داخل السينما المصرية. وقد جاء فيلم "فتاة من فلسطين"، سنة 1948، إخراج محمود ذو الفقار، وإنتاج عزيزة أمير، وبطولة سعاد محمد، ومحمود ذو الفقار، وصلاح نظمي، لتحكي قصة فتاة فلسطينية، هاجرت من بلادها بعد مقتل والدها على يد عصابة عسكرية صهيونية، فترحل الفتاة إلى القاهرة، لتعيش مع خالها، ويرتبط بها ابن خالها، ضابط الطيران، عادل (محمود ذو الفقار)، تاركاً خطيبته، التي تتهم ابنة عمته (سالمة) بخطفه، ويذهب عادل للحرب، وتصاب طائرته، ويكاد يفقد حياته، ويصاب بإصابات، يتوهم بأنها تعيقه عن الزواج، لكن ابنة عمته (سالمة) تصر على أن تظل بجانبه! (3)
وقد نال هذا الفيلم من النقد ما ناله، ربما بسبب الميلودراما التي سيطرت عليه، مع المبالغة في الأغاني، في غير مناسبة، والتي أفقدته أية دلالة إيجابية، إذ كان يفترض أن ينتهي الفيلم بالتأكيد على أن مصير مصر وفلسطين هو مصير مشترك، غير أن النتيجة جاءت على نحو ساذج، بما يخدم أغراض السوق التجاري للسينما المصرية، آنذاك.
لا يقل الفيلم الثاني، للمنتجة نفسها، (نادية)، سنة 1949، عن سابقة، حيث عانى الكثير من الثغرات، والتسطيح الفكري، فهو ينتقل من ميلودراما المعاناة والتضحية إلى ميلودراما المغامرة، دون الإشارة إلى طبيعة الحرب العربية ـ الإسرائيلية، وأسبابها، وأغراضها.
ثورة يوليو والتغيير:
تراكمت أسباب السخط الشعبي المصري، فمن احتلال بريطاني يجرح الكرامة الوطنية إلى فساد السراي، وبحجز الأحزاب السياسي القائمة، كل ذلك دفع بطليعة من الجيش المصري لأن تأخذ على عاتقها مهمة تخليص الشعب من كل ما يعانيه، لذا، كان من المنطقي أن تبدأ حركة الجيش، في 23 يوليو/ تموز 1952، مصرية الطابع، فتضع على رأس سلّم أولوياتها استقلال مصر، بعد تخلصها من الملكية الفاسدة، والأحزاب العاجزة. وبعد أن نجحت الثورة في عقد "إتفاقية الجلاء"، خريف 1954، تمهد السبيل كي تتطلع الثورة بأنظارها إلى خارج مصر.
ولكن، وبعد زهاء ثلاث سنوات من قيام الثورة، تكشف لها خلالها خطر الوجود الإسرائيلي في المنطقة، فبدأت في الدخول في مواجهة مع إسرائيل وأمريكا. وفي السياق نفسه، تحولت تلك الثورة من القطرية إلى البعد العربي الأوسع.
وما كان لهذا أن يتم دون أن يجد صداه في ميدان السينما المصرية، فيأتي فيلم "أرض الأبطال"، للمخرج نيازي مصطفى، أواخر 1952، الذي قام بعمله بإذن خاص من الرئيس جمال عبد الناصر نفسه، ثم فيلم "أرض السلام"، للمخرج كمال الشيخ (1957)، الذي يتحدث عن شاب مصري، يشارك في إحدى العمليات الفدائية داخل الأرض المحتلة، ليتعرف إلى شابة فلسطينية، تساعده في تنفيذ العملية، ثم إنهما يتزوجان، بعد العودة إلى مصر. (4)
إن المتفحص للنص السينمائي سيعي كم السذاجة العاطفية، وضيق الأفق، والتناول، اللتين سيطرتا على الفيلم، فلا يخلق الفيلم شكلاً سينمائياً، يعبر عن مضمون متماسك، أو حتى يحلل العلاقات والمواقف بين مصر والقضية الفلسطينية، باعتبارها تشكل جزءاً من مصير الوطن العربي كله، وهو ما يظهر، بشكل هامشي، في علاقة زواج البطل من الفتاة، وعودتهما سوياً، إلى مصر.
مع فيلم "الله معنا" (1953)، تنطلق من فلسطين، خلال حرب 1948 العربية ـ الإسرائيلية، حيث فقد عماد حمدي زملاء، ومعهم ذراعه، وهو ما ملأه بالمرارة، خاصة مع ضياع فلسطين نفسها. وفي أكثر من مشهد، وعلى نحو بالغ التأثير، يتحدث عماد حمدي بلهجة تفيض بالشجن، عن ذلك الوطن المغتصب، الذي ضاعت منه أجزاء، كما ضاعت من جسد حمدي أجزاء، نتيجة الخيانة والفساد، اللذان آن الأوان لتصفية الحساب معهما. (5)
هذا الفيلم، كغيره من الأفلام المصرية التي سبقته، يحدد، وعلى نحو قوي، مدى ارتباط الوطنين ـ المصري والفلسطيني. ولا تستطيع أفلام هذه الحقبة أن تحدد سياسة مرسومة لتناول القضية الفلسطينية داخل السينما المصرية، رغم أهميتها. كجزء من حركة التحرر الوطني العربية، فقسم من السينمائيين، الذين جاءوا مع ثورة يوليو/ تموز 1952، افتقدوا المنهج الفكري والسياسي في تعاملهم مع السينما، باعتبارها سلاحاً فكرياً ونضالياً، في آن، بينما تعامل قسم آخر من السينمائيين المصريين، مع السينما باعتبارها مصدراً اقتصادياً للربح فحسب.
جماعة السينما الجديدة:
لم يكن من باب الصدفة ظهور مجموعة من الشباب داخل السينما المصرية، المتطلعين إلى مزيد من الالتصاق بقضايا أمتهم برؤى حديثة، وبدرجة عالية من الوعي، وخوض التجربة، ذلك أنهم جاؤوا استجابة لاحتياجات مرحلة ما بعد النكبة (1967)، حيث انبثقت داخل نفوس هؤلاء الشباب إرادة قوية للأسئلة، وإصلاح ما كان، والبحث عن الأسباب، لمعالجتها.
هكذا ولدت "جماعة السينما الجديدة"، ومن أهم أعضائها: خيري بشارة، وداود عبد السيد، وغالب شعث، وعلي عبد الخالق، فقدمت هذه الجماعة، وغيرها من التجمعات السينمائية العربية، أول رؤية، وطرح حقيقيين لقضية الكفاح الوطني الفلسطيني، داخل السينما العربية عموماً، والمصرية خصوصاً.
لعل من أهم أفلام تلك الجماعة، التي تناولت قضية النضال الوطني الفلسطيني. داخل بناء درامي، فيلم "أُغنية على الممر"، للمخرج علي عبد الخالق (1972)، فمن خلال أجزاء اجتماعية بعيدة، إلى حد ما، عن التحليل السياسي، جاء البناء
الدرامي للفيلم، ولأول مرة على شاشة السينما المصرية، ليطرح فكرة المقاومة، على نحو لم يكن من قبل. كما جاءت محاولة غالب شعث جادة في طرح القضية الفلسطينية، دون افتعال، وبأسلوب بعيد عن الضجيج والثرثرة، من خلال فيلم "ظلال على الجانب الآخر" (1973)، عبر طالب فلسطيني يدرس في القاهرة، ويسكن مع أربعة من الشباب المصريين، داخل عوامة، يدرسون في كلية الفنون الجميلة، وكل منهم يروي الأحداث من وجهة نظره. ومع النهاية، يطالعنا الفيلم بصورة أقرب ما تكون للرؤية الشاملة للأوضاع، ونفاذ البصيرة لواقع بليد، متخلف، وهزيمة أوسع، وأعمق من هزيمة 1967 العسكرية نفسها، لكن الهزيمة لم تكن النهاية، بل خطوة ضرورية ألزمت الجميع بالتفكير والتدبير بأن البندقية هي التي ستفتح الطريق للمستقبل، من خلال المقاومة.(6)
رب ضارة نافعة، فكما كان لهزيمة 1967 جانبها الايجابي على السينما المصرية، وذلك في ظهور أولئك الشباب، كان في الخلفية من يستكمل بناء السينما التجارية، فجاءت نكسة 1967 مصدراً للربح الوفير، عبر الاستخفاف بعقول متلقي السينما، لتشكل وعياً مسطحاً، مشوشاً، لا يستند إلى دعائم وطنية لأجيال سابقة، ولعل أكثر الأفلام الدالة على ذلك فيلم "ثرثرة فوق النيل"، الذي فتح الباب أمام أفلام أخرى، تجاهلت واقعها، تماماً.(7)
نسجت أفلام "الكرنك" (1976)، للمخرج علي بدرخان، "وراء الشمس" للمخرج محمد راضي (1977)، و"احنا بتوع الأتوبيس"، للمخرج حسين كمال (1979)، على المنوال نفسه، الذي تعرضنا له في فيلم "ثرثرة فوق النيل".
إبان هذه الفترة، بدأت تتشكل أجيال في مصر، بعيدة، تماماً عن قضاياها الوطنية. فبعد الانتصار العسكري العربي على إسرائيل، في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وشق الرئيس المصري أنور السادات طريق الانفكاك عن العرب، وقضاياهم، كالارتباط بالغرب. عبر "الانفتاح الاقتصادي"، وضرب التحالف مع السوفييت والصلح مع عدو الأمة: إسرائيل، فبدأت حالة من الانحسار، والانكفاء الذاتي، أسهمت فيه المؤسسات الحكومية، فضلاً عن التغيرات الدراماتيكية الداخلية في المجتمع المصري، مثل:
أولاً: انحسار التيار القومي، وبدء ترسيخ النزعة الفردية، لدى الشباب، والانكفاء الذاتي، "لبناء المجتمع، بعد الحرب"، مؤكدين لدى قطاع كبير من الشباب بأن الحرب قد انتهت إلى غير رجعة، وأن "حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 آخر الحروب"!
ثانياً: التسطيح الإعلامي، وعمليات تزييف الوعي، الذي مارسته وسائل الإعلام الرسمية المصرية، في طرحها للقضية الفلسطينية، باعتبارها قضية الشعب الفلسطيني، لا ترتب على أبناء الشعب المصري إلى أي مهاماً نضالية، تضامناً أو مشاركة.
ثالثاً: ثمة سيطرة القطاع الخاص على المؤسسات وتفشي الفساد والمحسوبية داخل المجتمع المصري، فما كان من أبنائه إلا العمل، بشكل دؤوب، ليل نهار، لتحصيل قوت يومهم، فكيف لهم، والأمر كذلك، أن يفكروا في قضاياهم النضالية.
رابعاً: بدء عملية التخدير للمنطقة بأسرها، تحت مسمى "السلام"، فلا قضايا وطنية، ولا كفاح من أجل الحريات، ولا حقوق أو مستقبل لشعوب، ضحت بدمائها، ولا تزال.
قد يبدو للناظر بأن الوعي بالقضية الفلسطينية في مصر قد انحسر، تماماً، إلا أن المحاولات الجادة التي قام بها تيار آخر من المخرجين، في فترة الثمانينات، قد أسهمت، إسهاماً مجدياً، في طرح الكثير من الأسئلة، حول ما آلت إليه انتصارات أكتوبر/ تشرين الأول 1973، ومن هم الأعداء الحقيقيين للأمة العربية؟
لعل أبرز مخرجي الثمانينات، والذي يمتلك رؤية وفكر ثاقبين، ليس سينمائياً فحسب، بل في المجالين الاجتماعي والسياسي، على حد سواء، المخرج عاطف الطيب، الذي أخرج أفلاماً عدة، عالجت قضايا المجتمع المصري، التي استشرت داخل نسيجه. ومن أهم أفلامه "كتيبة الإعدام" 1989، و"سواق الأتوبيس" 1983 إلا أن ما يهمنا تناوله في هذا البحث، فيلم "ناجي العلي"، في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، ولأول مرة نجد في السينما المصرية فيلماً يتعرض لرمز ثقافي نضالي فلسطيني، هو محور السرد داخل الفيلم، من خلال استعراض أحداث وتواريخ تتعلق بفلسطين. وقضيتها الوطنية، حيث يبدأ النص السينمائي للفيلم، قبل بضعة أشهر من تاريخ اغتصاب فلسطين، ويشار إلى ذلك بجملة الإشارات الزمنية/ التاريخية، وتفجير المساكن، وتشريد أهالي القرى الفلسطينية، ثم انتهاء الانتداب البريطاني، وأخيراً إعلان الدولة الصهيونية، في 15 مايو/ أيار 1948، إلى أن يأتي ختام الفيلم، بتوقف قلب ناجي العلي، داخل مستشفى بلندن "عقب اغتياله" صيف عام 1987.(8)
يستعرض المخرج، عبر هذه الشخصية، نكسات الوطن العربي، والوضع المستشري في الدول العربية، من خلال بناء درامي محكم، ليحتل هذا المخرج موقع رائد السينما المصرية في تناول القضية الفلسطينية، بشكل مباشر وصريح، بعيداً عن الاختلافات والتزييف، رغم الانتقادات التي تعرض لها الفيلم، من كتَّاب اليمين. وبسبب سيادة قيم الفهلوة، وتراجع قيم الوطن والكفاح، فإن هذا الفيلم لم يعرض في دور العرض سوى أسبوعين، فقط
سينما التسعينيات:
مع بداية التسعينيات، لم تتعرض السينما المصرية، من قريب أو بعيد، للقضية الفلسطينية، فعلى منوال نشرات الأخبار، ووسائل الإعلام المصرية، نسجت السينما المصرية أفلامها. فلم يكن يرجى الكثير من جيل تربى على أفلام "الأكشن" الأمريكية، وعلى مفهوم الفهلوة داخل واقع استهلاكي، ونظرة للمستقبل لا تتعدى القدمين.
جاءت أفلام التسعينيات التي تناولت القضية الفلسطينية، فطالعنا فيلم "صعيدي في الجامعة الأمريكية"، إخراج سعيد حامد (1998)، بطولة محمد هنيدي، ومنى زكي، وأحمد السقا.
حيث فتى يأتي من صعيد مصر (خلف)، ليدرس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، فتنفجر تناقضات ساخرة داخل الفيلم، عندما يشرع خلف في مطارحة فتاة ارستقراطية قاهرية الحب، فتتوالى الأحداث، في إطار فكاهي كوميدي، ويظهر زميل خلف، المسيس المستنير، الذي يحث خلف على مشاركته في هموم واقعة، والعمل معاً لإصلاحه.
ومع اقتراب نهاية الفيلم، يطالعنا المخرج بمشهد مكرر، لطالما سبق استخدامه على شاشات التلفاز، من حرق للعلم الإسرائيلي، ومواجهة قوات الأمن للطلبة الثائرين. وكأن التوعية بالقضية قد تمت بإحراق العلم الإسرائيلي، أو بمشاركة خلف في هذه التظاهرة، ثم نأتي إلى نهاية الفيلم، حيث يتعرض خلف للمساءلة، في أحد الأجهزة الأمنية، حول اشتراكه في الاعتصام، ودوافعه، ويظل الصديق المسيس لخلف، طوال الفيلم، تحت مراقبة الأمن، ومطلوباً، وكل من يقترب من هذا الصديق تلتصق به التهمة نفسها، فما كانت محاولة الفيلم بالإشارة إلى القضية إلى محاولة للتنفيس والترهيب معاً، دون توعية بأن العدو، ماثل، وملِحّ.
كما هو حال بعض السينمائيين في تناولهم لقضية الفدائي، جاء فيلم "أصحاب وإلا بيزنس" (2001)، إخراج علي إدريس، ليصور الفدائي باعتباره الحل الأمثل للقضية، فبتفجير نفسه تحل القضية الفلسطينية، وينتهي الحديث عنها. وقد أوجز المخرج المصري الكبير "توفيق صالح" هذه النوعية من الأفلام بقوله: "إن هذه الحلول التي تأتي على نمط (الكاوبوي)، هي حلول من داخل الفيلم، وليست من الواقع بعمقه، فليس بالتفجير، وحده، نصل للحل، أو الاستقلال والحرية".(9)
ما بالنا، والحال كذلك، أن نرى بارقة أمل في تعامل السينما المصرية مع القضية الفلسطينية، بما يخدم مصالح الأخيرة. كذلك التعامل مع السينما ودورها التثقيفي، الريادي، والكفاحي.
باختصار، نحن أمام إسفاف بالقضية الفلسطينية، وأخذها مادة للاستهلاك فحسب، كغيرها من المواد الإعلامية، ففي أفلام نرى فدائياً يفجر نفسه، وفي أفلام أخرى ثمة من يحرق العلم الإسرائيلي، في استدراج ساذج لعطف الشارع العربي، غداة اندلاع "انتفاضة الاستقلال والأقصى"، وكأنه يتم خفض صوت السينما المصرية ورفعه، في ارتباط حميم مع ارتفاع وهبوط الكفاح الوطني الفلسطيني، وبشكل لاحق لذاك الانخفاض وهذا الارتفاع.
كما يحول هؤلاء المخرجين ـ كصناع للسينما المصرية ـ دون أن تلعب السينما دورها المفترض، والمنوط بها، كحادي للقافلة، الذي يتقدم الجمال والقوم، أو كغزال السير، الذي يبشر بالثورة، قبيل وقوعها.
السينما المغربية والقضية الفلسطينية
مصطفى الطالب – الفوانيس السينمائية
ما هي مكانة القضية الفلسطينية في السينما المغربية؟ ما هو حظ هذه القضية عددا في الفيلموغرافية المغربية؟ لماذا السينمائيون المغاربة لا يتطرقون إلى قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟
كل هذه الأسئلة المطروحة تفرض نفسها في ظل الأوضاع المتأزمة التي تمر بها القضية الفلسطينية اليوم، ولعل أبرزها الحصار المفروض على غزة و تهويد القدس مع إمكانية اجتثاث بيت المقدس من الأرض، إضافة إلى الشتات الفلسطيني الداخلي(التفرقة) والخارجي(اختلاف الرؤى). وأخيرا الصمت الحكومي العربي المطبق.
كما أن هذه الأسئلة تفرض نفسها على المستوى الوطني باعتبار أن موضوع السينما أصبح حاضرا بقوة اجتماعيا وسياسيا و ثقافيا. وإذا كنا هنا في المغرب نريد أن تتبوأ السينما المغربية مكانة رفيعة على المستوى العالمي، طبقا لما سطرته من جهة سياسة المركز السينمائي المغربي، ومن جهة أخرى وفقا لإرادة الدولة في هذا المجال، فان الأسئلة المطروحة في بداية هذا المقال لها مشروعيتها ودلالتها الرمزية والثقافية.
إن المتأمل للفيلموغرافية المغربية منذ بدايتها(1958) إلى اليوم(التي تتجاوز المائتين) يلاحظ بشكل عام غياب تعاطي السينمائيين المغاربة بشكل مباشر للقضية الفلسطينية. فلا عنوان يذكر قد يشير إلى فلسطين أو إلى الاحتلال الصهيوني لها، ولا سيناريو فيلم مأخوذ عن رواية فلسطينية أو عربية أو مغربية حول معاناة الفلسطينيين، بل إن المشاهد المغربي يستعصي عليه أن يتذكر شريطا مغربيا يحتوي على مشاهد لواقع الاحتلال أو للمقاومة الفلسطينية أو غيرها. إلا ما كان في شريط "حلاق درب الفقراء"(1982) لمحمد الركاب، الذي وظف الصورة الإخبارية/التلفزية للتطرق لمذبحة صبرا وشاتيلا، في مشهد معبر عن الحالة التي يوجد عليها الوضع العربي، حيث يبين المشهد بطل الفيلم وصديقه الذي يدعوه إلى احتساء زجاجة خمر وهما يتحدثان عن همومهما اليومية و رغبة الصديق في العيش في ظروف اقتصادية مريحة (مال، صديقة، نزوات…) في حين صور القتل والمذبحة تمر أمامهما على الشاشة. وهذا المشهد يتكرر مرتين أو ثلاثة لعمق مغزاه.
ثم هناك الشريط المتميز "جنة الفقراء" للمخرجة إيمان المصباحي التي تطرقت من خلال موضوع الهجرة إلى أوروبا ومعاناة العرب هناك وإلى معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال الصهيوني، عن طريق أغاني جيل الجيلالة الملتزمة التي وظفت بطريقة جيدة في الفيلم والتي تذكرنا بالسبعينات والثمانينات حيث القضية كانت حاضرة بقوة في جميع المجالات الفنية. للأسف الشريط لم يلق الدعم الكافي لإنجاحه جماهيريا. مما يدفعنا للتساؤل عن الجهات التي تستفيد من تهميش مثل هذه الأفلام الملتزمة.
هذه الملاحظة العامة تنطبق كذلك على السنوات العشر الأخيرة التي عرفت فيها السينما المغربية انطلاقة متميزة كما وكيفا. حيث أننا لم نشاهد أي عمل سينمائي يذكر حول فلسطين التي شهدت عدة أحداث أليمة بداية من الانتفاضة الأولى إلى غاية حصار غزة. بل إن المفاجأة خلال هذه السنوات الأخيرة هي ظهور شريطين مغربيين يتطرقان لهجرة يهود المغاربة إلى فلسطين المحتلة عوض التطرق لتهجيرالاف المواطنين الفلسطينيين من بلدهم إلى بلدان أخرى. والشريطان هما "فين ماشي ياموشي"(2008) لحسن بنجلون و"وداعا أمهات" (2008)لمحمد إسماعيل، اللذان حصلا على دعما خارجيا و عرضا في عدة لقاءات يهودية أجنبية، بل إن شريط "وداعا أمهات" سافر إلى "إسرائيل". يأتي هذا في وقت الذي انتفضت فيه كل الضمائر الحية بما فيها ضمير فعاليات المجتمع المدني الغربي ضد القصف الاسرائلي لغزة. لكن الظاهر أن القصف لم يحرك ضمير السينمائيين المغاربة الذين منهم من سار في اتجاه الإثارة والجرأة الرخيصة والضجة الإعلامية، عوض المعالجة المتميزة لمواضيع تهم المواطن المغربي بالدرجة الأولى محليا وعالميا.
والسبب ناتج عن أن جل السينمائيين المغاربة تتلمذوا فنيا وفكريا على الغرب وتبنوا نظرته للوجود و للحياة و لتحديد الأولويات، حيث تعطى الأولوية لما هو فرداني –شخصاني- استيهامي محض(وان كان الغرب سباقا لكل المواضيع التي تؤرق العالم). هذه النظرة عكس ما يعرفه الوطن العربي الذي يعطي الأسبقية لما هو جماعي وقومي، ومثال على ذلك الموقف الذي اتخذه مؤخرا مجموعة من السينمائيين المصريين اتجاه مشاركة الفيلم الإسرائيلي في الملتقى السينمائي الذي نظمته السفارة الفرنسية بالقاهرة. ذلك أن المخرجة كانت إحدى جنود العدو الإسرائيلي. وهنا يكمن الفرق بين النظرة المشرقية والنظرة المغربية، وان كنا نرى أن الإبداع يجب أن يجمع بين التوجهين، أي الفردي والقومي(الجماعي). ذلك أن العمل الإبداعي الناجح هو الذي يزاوج بين اهتمامات و هواجس المبدع الشخصية واهتمامات وتطلعات مجتمعه. وهذا ما نعاني منه اليوم على الساحة السينمائية المغربية. ففي الوقت الذي تقوى فيه الدعم السينمائي و تململ الإنتاج السينمائي المغربي نلاحظ غياب الاهتمام بالقضية الفلسطينية وبالقضايا العربية المصيرية على حساب اهتمامات شخصية صرفة.
وعليه فان السينمائيين المغاربة مطالبين بتغيير نظرتهم للإبداع السينمائي لفض القطيعة مع قضايا الوطن العربي، وأهمها القضية الفلسطينية. هذه القضية التي يراد لها أن يصرف عنها النظر ثقافيا وفنيا، لولا انخراط مجموعة من الفنانين والممثلين والفعاليات الثقافية الفنية في حفلات فنية مساندة لكفاح الشعب الفلسطيني.كنا نأمل من اليسار (بمثقفيه ومبدعيه) الذي كان لا يهتف إلا باسم فلسطين والثورة الفلسطينية أن يستمر في نضاله من اجل هذه القضية المصيرية خاصة على المستوى السينمائي، لكنه للأسف استسلم للمفهوم الفرداني للإبداع، فمات ضمير الجماعة. إن الآلة السينمائية الصهيونية تتحرك اليوم بشكل قوي كما رأيناها مؤخرا مع أشرطة أمريكية و فرنسية للدعاية الصهيونية، فهل تتحرك آلتنا السينمائية لنصرة شعب اعزل؟